محمد بن صالح العثيمين
أيها الناس: اتقوا الله تعالى واعرفوا ما أبلاه سلف هذه الأمة من بلاء حسن في نصرة هذا الدين وما صبروا عليه من الشدائد في إعلاء كلمة رب العالمين فإنهم جاهدوا في سبيل الله لم يجاهدوا لعصبية ولا لوطنية ولا لفخر وخيلاء، وفي شهر شوال من السنة الثالثة من الهجرة كانت غزوة أحد وهو الجبل الذي حول المدينة والذي قال فيه : ((أحد جبل يحبنا ونحبه)) وذلك أن المشركين لما أصيبوا بفادحتهم الكبرى يوم بدر خرجوا ليأخذوا بالثأر من النبي وأصحابه في ثلاثة آلاف رجل ومعهم مائتا فرس مجنبة فلما علم بهم رسول الله استشار أصحابه في الخروج إليهم فخرج بنحو ألف رجل فلما كانوا في أثناء الطريق انخذل عبد الله بن أبَي رأس المنافقين بمن اتبعه من أهل النفاق والريب وقالوا لو نعلم قتالا لاتبعناكم فتعبأ رسول الله للقتال في سبعمائة رجل فقط ودفع اللواء إلى مصعب بن عمير وأمر على الرماة عبد الله بن جبير
وقال: انضحوا عنا الخيل لا يأتونا من خلفنا إن كانت لنا أو علينا فاثبتوا مكانكم فأنزل الله نصره على المؤمنين وصدقهم وعده فكشفوا المشركين عن المعسكر وكانت الهزيمة لا شك فيها ولكن الله قضى وحكم ولا معقب لحكمه وهو السميع العليم، فإن الرماة لما رأوا هزيمة الكفار ظنوا أنهم لا رجعة لهم فتركوا مركزهم الذي أمرهم رسول الله بلزومه فكر فرسان المشركين ودخلوا من ثغر الرماة ففاجئوا المسلمين من خلفهم واختلطوا بهم حتى وصلوا إلى النبي فجرحوا وجهه وكسروا رباعيته اليمنى السفلى وهشموا البيضة بيضة السلاح على رأسه ونشبت حلقتان من حلق المغفر في وجهه فعض عليهما أبو عبيدة فنزعهما وسقطت ثنيتاه من شدة غوصهما في وجه النبي ونادى الشيطان بأعلى صوته أن محمدا قد قتل فوقع ذلك في قلوب كثير من المسلمين وفر أكثرهم فبقي النبي في سبعة من الأنصار ورجلين من المهاجرين فقال النبي : ((من يردهم عنا وله الجنة)). فتقدم الأنصار واحدا واحدا حتى قُتلوا وترس أبو دجانة في ظهره على النبي والنبل يقع فيه وهو لا يتحرك واستشهد في هذه الغزوة سبعون رجلا من أصحاب النبي منهم أَسَد الله وأسد رسوله حمزة بن عبد المطلب عم النبي وسيد الشهداء ومنهم عبد الله بن جحش دفن هو وحمزة في قبر واحد ومنهم مصعب بن عمير صاحب اللواء ومنهم سعد بن الربيع بعث إليه النبي زيد بن ثابت يقرئه السلام فوجده في آخر رمق وفيه سبعون ضربة فقال له : إن الرسول يقرأ عليك السلام ويقول كيف تجدك قال: وعلى رسول الله السلام قل له أجد ريح الجنة وقل لقومي الأنصار لا عذر لكم عند الله إن خلص إلى رسول الله وفيكم عين تطرف ثم فاضت نفسه
ومر أنس بن النضر بقوم من المسلمين قد ألقوا ما بأيديهم فقال ما تنتظرون قالوا: قتل رسول الله فقال: ما تصنعون بالحياة بعده قوموا فموتوا على ما مات عليه ثم لقي سعد بن معاذ فقال: يا سعد إني لأجد ريح الجنة من دون أحد فقاتل حتى قتل ووجد به نحو من سبعين ضربة فلما انقضت الحرب أشرف أبو سفيان وكان رئيس المشركين يومئذ ثم أسلم بعد أشرف على الجبل يسأل عن النبي وأبي بكر وعمر فلم يجيبوه إهانة له واحتقارا قال أبو سفيان لأصحابه أما هؤلاء فقد كفيتموهم فلم يملك عمر نفسه أن قال: ((كذبت يا عدو الله إن الذين ذكرتهم أحياء وقد أبقى الله لك ما يسوؤك)) ثم قال أبو سفيان مفتخرا بصنمه اعل هبل فقال النبي قولوا: ((الله أعلى وأجل)) ثم قال أبو سفيان لنا العزى ولا عزى لكم فقال النبي : ((قولوا الله مولانا ولا مولى لكم)) ثم انصرف أبو سفيان بأصحابه فلما كانوا في أثناء الطريق تلاوموا فيما بينهم ليرجعوا إلى النبي وأصحابه فيستأصلونهم فبلغ ذلك النبي فنادى في الناس ليخرجوا إلى عدوهم وقال: ((لا يخرج معنا إلا من شهد القتال في أحد)) فاستجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح والبلاء المبين حتى بلغوا حمراء الأسد على ثمانية أميال من المدينة فأنزل الله فيهم: الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم [آل عمران:173-174].