روى الإمام أحمد رحمه الله بسند صحيح عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال:
خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات غداة بعد طلوع الشمس فقال:
رَأَيْتُ قُبَيْلَ الْفَجْرِ كَأَنِّي أُعْطِيتُ الْمَقَالِيدَ، وَالْمَوَازِينَ، فَأَمَّا الْمَقَالِيدُ فَهَذِهِ الْمَفَاتِيحُ، وَأَمَّا الْمَوَازِينُ فَهِيَ الَّتِي تَزِنُونَ بِهَا، فَوُضِعْتُ فِي كِفَّةٍ، وَوُضِعَتْ أُمَّتِي فِي كِفَّةٍ، فَوُزِنْتُ بِهِمْ، فَرَجَحْتُ، ثُمَّ جِيءَ بِأَبِي بَكْرٍ، فَوُزِنَ بِهِمْ، فَوَزَنَ، ثُمَّ جِيءَ بِعُمَرَ، فَوُزِنَ، فَوَزَنَ، ثُمَّ جِيءَ بِعُثْمَانَ، فَوُزِنَ بِهِمْ، ثُمَّ رُفِعَتْ.
أي رفعت الموازين، ويبدو أيضًا أننا لا نعطي القدر الكافي لعمر رضي الله عنه، ولعثمان رضي الله عنه، ونسأل الله أن ييسر لنا الحديث عنهم بشيء من التفصيل، لاحقًا إن شاء الله.
نعود إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وهناك العديد من الأحاديث التي تذكر فضل الصديق رضي الله عنه وأرضاه، أكثر من أن تحصى هنا، فالصحابة ما ترددوا في اختيار الصديق، وما اختلفوا عليه؛ لأنه بالإجماع كان أفضلهم، وكانوا يعلمون ذلك زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم،
ولنمر قليلًا بين أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم، وأقوال الصحابة رضي الله عنهم في حق هذا الرجل الجليل:
- روي البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما قال:
كنا نخير بين الناس في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنخير أبا بكر، ثم عمر بن الخطاب، ثم عثمان بن عفان رضي الله عنهم أجمعين. وفي رواية الطبراني زاد:
فيعلم بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، ولا ينكره.
- وروى البخاري عن عبيد الله بن عمر رضي الله عنهما قال:
كنا لا نعدل بأبي بكرٍ أحدًا، ثم عمر، ثم عثمان، ثم نترك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا نفاضل بينهم.
- وأخرج ابن عساكر عن أبي هريرة قال:
كنا معاشر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحن متوافرون نقول: أفضل هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم نسكت.
- وأخرج الإمام أحمد عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال:
خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر وعمر.
يعلق الذهبي على هذا الحديث فيقول:
هذا متواتر عن علي رضي الله عنه، فلعن الله الرافضة ما أجهلهم.
الرافضة أي الطائفة من الشيعة التي رفضت خلافة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما.
- وأخرج الترمذي والحاكم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال:
أبو بكر سيدنا، وخيرنا، وأحبنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وبالطبع فهذا الحب من رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يستنتجه عمر، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم صرح به من قبل.
- روى البخاري ومسلم عن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال:
قلت: يا رسول الله، أي الناس أحب إليك؟
قال: عَائِشَةُ.
قلت: من الرجال؟
قال: أَبُوهَا.
قلت: ثم من؟
قال: عُمَرُ.
قلت: ثم من؟
قال عمرو بن العاص: فعد رجالا.
- وروى الطبراني، عن عمار بن ياسر رضي الله عنهما قال:
من فضل على أبي بكر، وعمر أحدًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد أزرى على المهاجرين والأنصار.
أي انتقص من المهاجرين والأنصار.
- وروى البخاري، عن أنس بن مالك رضي الله عنه، أن رجلًا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الساعة، فقال:
متى الساعة؟
قال: وَمَاذَا أَعْدَدْتَ لَهَا؟
قال: لا شيء، إلا أني أحب الله ورسوله.
فقال الرسول: أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ.
قال أنس: فما فرحنا بشيء فرحنا بقول الرسول صلى الله عليه وسلم:
أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ.
قال أنس: فأنا أحب النبي صلى الله عليه وسلم، وأبا بكر، وعمر، وأرجو أن أكون معهم بحبي إياهم، وإن لم أعمل بعملهم.
فإحساس أنس رضي الله عنه بأبي بكر، وعمر، كان هو إحساس كل الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين.
- وأخرج الترمذي وحسنه ابن ماجه وأحمد وغيرهم عن أنس قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر وعمر:
هَذَانِ سَيِّدَا كُهُولِ الْجَنَّةِ مِنَ الْأَوَّلِيينَ وَالْآخِرِينَ خَلَا النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ.
الكهل بين الثلاثين والأربعين، وقيل المقصود بالكهل العاقل الحكيم، وأخرج الترمذي نفس الحديث عن علي.
- وأخرج الترمذي وحسنه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
إِنَّ أَهْلَ الدَّرَجَاتِ الْعُلَى لَيَرَاهُمْ مَنْ تَحْتَهُمْ كَمَا تَرَوْنَ النَّجْمَ الطَّالِعَ فِي أُفُقِ السَّمَاءِ، وَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ مِنْهُمْ.
وأخرج الطبراني نفس الحديث عن جابر بن سمرة وعن أبي هريرة.
- وأخرج الترمذي والحاكم وابن ماجه عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج ذات يوم، فدخل المسجد، وأبو بكر وعمر، أحدهما عن يمينه والآخر عن شماله، وهو آخذ بأيديهما وقال:
هَكَذَا نُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
وأخرجه الطبراني عن أبي هريرة رضي الله عنه.
- وأخرج الترمذي والحاكم عن ابن عمر قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
أَنَا أَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الْأَرْضَ، ثُمَّ أَبُو بَكْرٍ، ثُمَّ عُمَرُ.
- وأخرج الترمذي والحاكم وصححه عن عبد الله بن حنطب، أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى أبا بكر وعمر فقال:
هَذَانِ السَّمْعُ وَالْبَصَرُ.
وأخرجه الطبراني من حديث ابن عمرو وبطرق أخرى عن ابن عباس وعن جابر.
- وأخرج الترمذي وقال: حسن صحيح، عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر:
أَنْتَ صَاحِبِي عَلَى الْحَوْضِ، وَصَاحِبِي فِي الْغَارِ.
والصحبة في الغار فضيلة ولا شك.
هذه مجموعة من الأحاديث التي تثبت فضل الصديق على باقي الصحابة، وهي ليست كل ما ورد في حق الصديق رضي الله عنه، فقد أعرضت عن مجموعة ضخمة من الأحاديث إما لتكرارها، وإما لضعف في السند، هذه الكثرة في الأدلة جعلت علماء أهل السند يتفقون على أفضلية الصديق رضي الله عنه، ويتفقون على تقديمه على كل الصحابة رضي الله عنه أجمعين،
هذه الدرجة العالية من الفضل، والإيمان جعلت رسول الله صلى الله عليه وسلم يطمئن إلى إيمان الصديق، وإلى تصديق الصديق حتى في غيابه، وهذه درجة عالية جدًا في الفضل، بمعنى إذا ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرًا عجيبًا غريبًا قد يشك فيه بعض الناس، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم يطمئن، ويضمن أن يصدقه الصديق حتى قبل أن يعرف موقف الصديق، درجة متناهية في الفضل بين الصحابة، وهاكم دليلا على ذلك:
- أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح، ثم أقبل على الناس فقال:
بَيْنَا رَجُلٌ يَسُوقُ بَقَرَةً إِذْ رَكِبَهَا، فَضَرَبَهَا، فَقَالَتْ:
إِنَّا لَمْ نُخْلَقْ لِهَذَا، إِنَّمَا خُلِقْنَا لِلْحَرْثِ.
فقال الناس: سبحان الله بقرة تتكلم.
فقال صلى الله عليه وسلم:
فَإِنِّي أُومِنُ بِهَذَا أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ.
وما هما ثَمّ.
أي لم يكونا موجودين في هذا اللقاء الذي يتحدث فيه رسول الله، ثم يكمل رسول الله صلى الله عليه وسلم:
وَبَيْنَمَا رَجُلٌ فِي غَنَمِهِ، إِذْ عَدَى الذِّئْبُ، فَذَهَبَ مِنْهَا بِشَاةٍ، فَطَلَبَهَا، حَتَّى كَأَنَّهُ اسْتَنْقَذَهَا مِنْهُ، فَقَالَ لَهُ الذِّئْبُ:
هَذِهِ اسْتَنْقَذْتَهَا مِنِّي فَمَنْ لَهَا يَوْمَ السَّبُعِ يَوْمَ لَا رَاعِي لَهَا غَيْرِي؟
فقال الناس: سبحان الله ذئب يتكلم؟
قال: فَإِنِّي أُومِنُ بِهَذَا أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ.
وما هما ثَم.
واختلفوا كثيرًا في شرح المقصود بحادثة السبع هذه، لكن الشاهد الثابت من القصة هو تكلم الذئب، وتكلم البقرة، وإيمان الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك، وإيمانه بأن الصديق وعمر رضي الله عنهما سيؤمنون بذلك حتمًا، ولم يكونا حاضرين في المجلس، وهي فضيلة ولا شك للصحابيين الجليلين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما.
إذن ليس من عجب أن يختار المؤمنون أبا بكر الصديق للخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالأحاديث السابقة، وغيرها تشير إلى أن الصحابة جميعًا كانوا يعتبرونه أفضلهم، وأقربهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعلاهم منزلة في الدنيا والآخرة، وهذا كله سَهّل عليهم اختياره خليفة للمسلمين، بل إن هذا الأمر لم يكن خافيًا حتى على المشركين، كان المشركون يعلمون أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه هو الوزير الأول لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأكثر الصحابة قربًا له، حتى في الهجرة لما اكتشف خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم من بيته، والمشركون يحاصرون البيت ماذا فعلوا بعد هذا الاكتشاف؟
أول شيء فعلوه أن ذهبوا إلى بيت الصديق رضي الله عنه، فهم يعلمون أنه الصاحب الأول له، ولا بد أن الصديق يعرف مكانه، وصدق ظنهم فلم يجدوه هناك، فضرب أبو جهل السيدة أسماء رضي الله عنها على وجهها حتى أطار قرطها، لماذا تجاوز أبو جهل الحدود؟
لأنه على يقين من أن الصديق رضي الله عنه خرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأعماه الحقد عن مراعاة قواعد الجاهلية من احترام حرمة البيوت، ومن عدم التعرض للنساء بالأذى.
- في يوم أحد لما هزم المسلمون، وانسحبوا إلى الجبل جاء أبو سفيان ليتأكد من موت زعماء المسلمين، فالزعيم الأول بلا شك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أبو سفيان:
أفيكم محمد صلى الله عليه وسلم؟
فلم يجيبوه، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان قد أمرهم ألا يجيبوه، فماذا قال أبو سفيان؟ لقد قال مباشرة:
أفيكم ابن أبي قحافة؟
فلم يجيبوه، إذن أبو سفيان كان يعلم أن القائد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه فلما لم يجيبوه قال:
أفيكم عمر؟
فلم يجيبوه أيضًا لأن الرسول صلى الله عليه وسلم منعهم من الإجابة، فهؤلاء هم الزعماء الثلاثة بالترتيب في نظر أبي سفيان المشرك آنذاك، عندها قال أبو سفيان: أما هؤلاء فقد كفيتموهم.
هنا لم يملك عمر نفسه فقال:
يا عدو الله إن الذين ذكرتهم أحياء، وقد أبقى الله ما يسوؤك.
إذن الشاهد من هذه الأمور أن الناس أجمعين مؤمنهم وكافرهم كانوا يرون أن أبا بكر رضي الله عنه هو الرجل الثاني في هذه الدولة، وهو الرجل المتوقع أن يخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا غاب الرسول أو مات،
طبعًا، بفضل الله، عموم المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها الآن يؤمنون بصحة خلافة الصديق، وبفضله ومكانته، لكننا ندلل على هذا الأمر لأن هناك طائفة من المستشرقين، وطائفة من الشيعة، وطائفة من العلمانيين يطعنون في خلافة الصديق رضي الله عنه، ويطعنون في سرعة اختياره في سقيفة بني ساعدة، ذلك أنهم لا يقدرون للصديق قدره، ولا يعرفون مكانته، أو هم يعرفون وينكرون لأهداف خبيثة في نفوسهم، وللأسف الشديد فهذا التيار الرامي إلى الطعن في خلافة الصديق، وفي نزاهة الصحابة الذين اختاروا هو تيار متصاعد في البلاد الإسلامية في ظل العلمانية المتصاعدة في كثير منها، وفي ظل سيطرة كثير من العلمانيين على كراسي التعليم والتربية في كثير من جامعات ومدارس المسلمين، وفي ظل الهجمة الصليبية، واليهودية الشرسة على دين الإسلام، وعلى المسلمين، الطعن في خلافة الصديق يدرس في كثير من الجامعات المتخصصة، وفي أقسام التاريخ، وأقسام السياسة، ولا بد للمسلمين من وقفة، ولا بد لعلماء المسلمين من انتباه، ولا بد للآباء والمربين أن يتعلموا فضل الصديق، وفضل الصحابة، ويعلمونه أولادهم وتلامذتهم، فالدفاع عن الصديق والصحابة دفاع عن الدين في صلبه وفي عمقه.
وقد يقال من قِبَل العلمانيين والمتشككين:
آمنا معكم بفضله، ومكانته، وإيمانه، وتقواه، لكن ليس بالضرورة أن يكون المؤمن التقي الورع هو أصلح الناس للخلافة فرسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعط الإمارة لأناس لا يشك أحد في تقواهم، وورعهم لأنهم لا يصلحون للقيادة والإمارة، فلم يعط لأبي ذر مثلًا وقال له:
إنك امرؤ ضعيف.
وولى عمرو بن العاص على وجوه الصحابة بما فيهم أبو بكر وعمر في سرية ذات السلاسل؛ لأنه أبصر بالحرب، فقد يكون هناك ممن هو أبصر بالخلافة من أبي بكر الصديق رضي الله عنه.
ونحن وإن كنا نعلم أن هذا الطرح من المتشككين طرح جدلي لأن الأيام أثبتت تفوقه على غيره في كل الأمور، إلا إننا نسير معهم فيما قالوه، ونقارع كما يقولون الحجة بالحجة والبرهان بالبرهان، نقول لهم:.
ما هي شروط الخليفة في الإسلام؟
وهذا ما سنتناوله في الفصل القادم إن شاء.