قام الرسول صلى الله عليه وسلم بثلاث خطوات رئيسية لضمان هذا الاستخلاف دون تصريح:
خطوات الرسول صلى الله عليه وسلم لضمان استخلافه
أولًا: قال صلى الله عليه وسلم: الْأَئِمَّةُ فِي قُرَيْشٍ.
وبذلك ضَيّق إلى حد كبير قاعدة الانتخاب، وعلم صلى الله عليه وسلم أنه لو كان الأمر في قريش فهو، ولا بد سيئول إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه لمكانته.
ثانيًا: أراد التأكيد على استثناء الأنصار؛ لأنه قد يحظر ببالهم كما ذكرنا من قبل أنهم أصحاب البلد، والذين نصروا الدين وأقاموا الدولة، فيجب أن يكون الخليفة منهم، فأراد أن يؤكد على استثنائهم، ولكن بأسلوب حكيم لا يجرح شعورهم، ولا يقلل قيمتهم، فقام بحكمة رائعة يوصي الناس بالأنصار، ولو كانوا خلفاء ما احتاجوا وصاية، ولكنه يشير إلى أن الخلافة لن تكون فيهم، فيجب على ولي الأمر أن يستوصي بالأنصار خيرًا، وأكثر من مثل هذه الأحاديث وخاصة عندما قربت منيته صلى الله عليه وسلم، وكان في مرض الموت حتى يؤكد على هذه الحقيقة.
مثال ذلك ما رواه البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال:
مر أبو بكر والعباس رضي الله عنهما بمجلس من مجالس الأنصار رضي الله عنهم وهم يبكون، فقال:
ما يبكيكم؟
قالوا: ذكرنا مجلس النبي صلى الله عليه وسلم منا.
وكان هذا في مرض الرسول صلى الله عليه وسلم الأخير، فهم يبكون لإحساسهم أنهم سيفارقون رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فدخل على النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك، قال:
فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وقد عصب على رأسه حاشية برد، قال: فصعد المنبر، ولم يصعده بعد ذلك اليوم، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أُوصِيكُمْ بِالْأَنْصَارِ، فَإِنَّهُمْ كَرِشِي وَعَيْبَتِي.
يقصد أن الأنصار بطانتي وموضع سري.
وَقَدْ قَضَوُا الَّذِي عَلَيْهِمْ، وَبَقِيَ الَّذِي لَهُمْ، فَاقْبَلُوا مِنْ مُحْسِنِهِمْ وَتَجَاوَزُوا عَنْ مُسِيئِهِمْ.
والأنصار قضوا ما عليهم: وهو ما كان في بيعة العقبة الثانية، كما يقول ابن حجر العسقلاني في فتح الباري، وهو إيواء رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونصرته.
وبقي الذي لهم: وهو الجنة، فما هي إلا أيام قليلة في الدنيا ويلحقون برسول الله صلى الله عليه وسلم في الجنة، فعلى من يتولى أمور المسلمين أن يقبل محسنهم ويتجاوز عن مسيئهم.
أيضًا في نفس هذا المعنى ما رواه البخاري عن ابن عباس رضي الله عنه قال:
خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه بملحفة قد عصب بعصابة دسماء (أي شد رأسه بعصابة لونها كلون الدسم أي الدهن)، حتى جلس على المنبر، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال:
أَمَّا بَعْدُ، أَيُّهَا النَّاسُ فَإِنَّ النَّاسَ يَكْثُرُونَ، وَتَقِلُّ الْأَنْصَارُ، حَتَّى يَكُونُوا كَالْمِلْحِ فِي الطَّعَامِ.
وانظر إلى روعة التشبيه، فهم سيقلون جدًا ليصبحوا كنسبة الملح في الطعام ومع ذلك، فإن الملح شيء لا غنى عنه في الطعام.
ثم يكمل صلى الله عليه وسلم فيقول:
فَمَنْ وَلِيَ مِنْكُمْ شَيْئًا يَضُرُّ فِيهِ قَوْمًا، وَيَنْفَعُ فِيهِ آخَرِينَ، فَلْيَقْبَلْ مِنْ مُحْسِنِهِمْ، وَيَتَجَاوَزُ عَنْ مُسِيئِهِمْ.
وهذه إشارة واضحة بأن الذي سيلي أمور المسلمين ليس من الأنصار.
يقول ابن عباس رضي الله عنهما:
فكان آخر مجلس جلس به النبي صلى الله عليه وسلم.
ثالثًا: أشار في أحاديث عديدة، كما ذكرنا لرغبته في استخلاف الصديق رضي الله عنه، وبذلك مهد الطريق للمسلمين ليختاروا عن طريق الانتخاب أبا بكر الصديق رضي الله عنه.
وقفة وسؤال:
هل كانت كل هذه الإشارات، والمواقف، والأحاديث من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقط لحفظ حق الصديق رضي الله عنه في الخلافة؟ أم إن مصلحة المسلمين الفعلية تقتضي في المقام الأول أن يكون الصديق هو الخليفة؟
الحقيقة أن الأمرين معًا كانا مقصودين:
الأمر الأول: هذا حق الصديق رضي الله عنه لفضله، ومكانته، وقدراته، وكفاءاته، ولا يجب أن يولي غيره في وجوده.
والأمر الثاني الهام جدًا: أن مصلحة المسلمين الفعلية كانت في استخلاف الصديق رضي الله عنه دون غيره.
خلافة الصديق كانت رحمة بالأمة
كان اختيار الصديق خليفة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم رحمة بالأمة ومصلحة كبرى لها، وذلك للأسباب الآتية:
أولًا: تحتاج الأمة أن تسير في نظام هو أشبه ما يكون بحياة الرسول صلى الله عليه وسلم، فالتغيير في نسق الحياة، والإدارة، والمعاملة، قد يؤدي بالأمة إلى هاوية خطيرة، فحتى إن كان الشرع يسمح بآراء متعددة في قضية معينة، فإن الانتقال من حياة معينة إلى حياة مختلفة يسبب الاضطراب عند الناس، والتخبط، وعدم توقع خطوات المستقبل.
و الصديق رضي الله عنه لطول صحبته لرسول اله صلى الله عليه وسلم، ولقدم العشرة حتى قبل نزول الرسالة على الرسول صلى الله عليه وسلم، ومرورًا بفترة مكة، والهجرة، وكل المشاهد، والغزوات في المدينة، كان يعرف كل دقائق حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان كثير الدخول عليه في بيته، وخاصة وأن ابنته السيدة عائشة رضي الله عنها هي إحدى زوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان حب الرسول صلى الله عليه وسلم سببًا في كثرة اللقاءات بينهما، حتى أنه كثيرًا ما كان يذهب لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد العِشاء يتبادلان الرأي والمشورة في أمور كثيرة، هذا الاختلاط الكبير برسول الله صلى الله عليه وسلم أطلع الصديق رضي الله عنه على أمور كثيرة ما اطلع عليها غيره، ولذلك فقد كان يعلم ما لا يعلمه كثير من الصحابة الأجلاء.
فوق هذا الاطلاع على حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، فإن الصديق تميز برغبة شديدة في اتباع خطوات الرسول صلى الله عليه وسلم، واقتفاء آثاره قدر الوسع، وقد ذكرنا ذلك بالتفصيل قبل ذلك.
إذن هو امتلك الرغبة، والعلم الذي يؤيد هذه الرغبة، ومن ثَم كانت حياته رضي الله عنه امتدادًا طبيعيًا جدًا لحياة الرسول صلى الله عليه وسلم، وما شعر المسلمون بتغير ملموس في أساليب الإدارة، والمعاملة، والاختيار بين الآراء، وما أحسب أن الرسول صلى الله عليه وسلم لو كان حيًا لفعل أو رأى غير ما فعل أو رأى الصديق رضي الله عنه، كيف لا وهو الذي قال صلى الله عليه سلم: اقْتَدُوا بِالَّذِينَ مِنْ بَعْدِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ. وقال: عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ مِنْ بَعْدِي.
فهو صلى الله عليه وسلم كما أطلعه الوحي يعلم أن الخلفاء الراشدين لن يغيروا بعده، وسيختارون من الرأي والفعل ما يرضي الله ورسوله.
ثانيًا: كان اختيار الصديق رضي الله عنه خليفة للأمة فيه مصلحة أخرى كبير، وهي أن الأمة قد خرجت من مصيبة هائلة، وكارثة مروعة، وهي مصيبة وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، وكارثة انقطاع الوحي، وتحتاج في هذه المصيبة إلى الرحمة، لا الشدة، وإلى الرفق، لا العنف، ومَن أرحم بالأمة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم مِن الصديق رضي الله عنه؟
لا نقول نحن ذلك، بل قاله الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، روى الإمام أحمد والترمذي، وأبو يعلى عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
أَرْحَمُ أُمَّتِي بِأُمَّتِي أَبُو بَكْرٍ.
فرحمة الله عز وجل بهذه الأمة اقتضت أن يتولى أمورها أرحمها، وهو الصديق رضي الله عنه.
ثالثًا: كانت مصلحة المسلمين تقتضي أيضًا أن يتولى أمورها أشد الناس ثباتًا، وأرسخهم قدمًا، فمن المؤكد أن الدولة ستواجه أهوالًا عظامًا، وتحديات جسيمة، ومن المؤكد أن كثيرًا من التجمعات، والأفراد سيطمعون في الأمة الإسلامية بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، من يقود السفينة في الأمواج المتلاطمة؟
من أشد الصحابة ثباتًا وعزيمة؟
من أكثرهم يقينًا في وعد الله بالنصر؟
من أعظم الصحابة غيرةً على الدين؟
إنه الصديق ولا شك في ذلك، ظهر ثباته من أول يوم مات فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وظل ثابتًا في كل المواقف، والمشاهد، والأهوال، ظل ثابتًا في الردة، ظل ثابتًا أمام فارس، وظل ثابتًا أمام الروم، ما لانت له قناة وما اهتز له جفن.
- يروي لنا البيهقي بسند صحيح كما ذكر ابن كثير رحمه الله، عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال:
والله الذي لا إله إلا هو، لولا أبو بكر استخلف ما عُبِد الله.
ثم قال ثانية، ثم قال ثالثة، أي كرر نفس الجملة ثلاث مرات، فقيل له:
مه يا أبا هريرة- أي كفاك ما قلت- إنه لقول عجيب.
فأخذ أبو هريرة يسرد أحداثًا يبرهن بها على صدق مقولته، قال:
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وَجّه أسامة بن زيد رضي الله عنهما في سبعمائة إلى الشام، فلما نزل بذي خشب (مكان قريب إلى المدينة) قُبض رسول الله صلى الله عليه وسلم، وارتدت العرب حول المدينة، فاجتمع إليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا:
يا أبا بكر رد هؤلاء- يقصدون جيش أسامة- تُوَجه هؤلاء إلى الروم، وقد ارتدت العرب حول المدينة؟
فقال الصديق رضي الله عنه:
والذي لا إله غيره، لو جرت الكلاب بأرجل أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما رددت جيش وَجّهه رسول الله، ولا حللت لواءًا عقده رسول الله.
فوجه أسامة فجعل لا يمر بقبيل يريدون الارتداد إلا قالوا: لولا أن لهؤلاء قوة ما خرج هؤلاء من عندهم، ولكن ندعهم حتى يلقوا الروم، فلقوا الروم فهزموهم وقتلوهم، ورجعوا سالمين فثبتوا على الإسلام.
إذن ثبات الصديق رضي الله عنه كان رحمة من الله بالأمة، فاستمرت دعوة الإسلام وتوطدت أركان الدولة، واحتفظت الأمة الإسلامية بمكانتها وهيبتها.
لكل ما سبق نستطيع أن القول بأن اختيار الصديق رضي الله عنه وأرضاه كخليفة للمسلمين كان اختيارًا عادلًا موفقًا صحيحًا، بل رحيمًا بالأمة.
كان ذلك لأنه أفضل الصحابة مطلقًا.
كان ذلك لأنه تتوافر فيه شروط الخليفة على أفضل ما يكون، ويتفوق فيها على كل الصحابة.
كان ذلك لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان راغبًا في استخلافه وإن كان أشار ولم يصرح.
وكان ذلك لأن مصلحة الأمة الإسلامية كانت في استخلاف هذا الرجل رضي الله عنه.