الارتداد» الذي يوصل في نهاية المطاف إلى اعتناق موقفٍ عقدي جديد. ويصف البابا يوحنا بولس الثاني هذه العملية بقوله: (إن الحوار بالنسبة إلى الكنيسة هو ـ نوعاً ما ـ أداة، وعلى الأخص طريقة للقيام بعملها في عالم اليوم... إنارة الكون كله ببشارة الإنجيل، وتوحيد البشر بروحٍ واحد... وفي الواقع إن الكنيسة تستعمل طريقة الحوار لكي تحسن حمل الناس ـ سواء أكانوا يعرفون أنفسهم أنهم أعضاء الجماعة المسيحية بالعماد والاعتراف بالإيمان، أم هم غرباء عنها ـ على الارتداد والتوبة، عن طريق تجديد ضميرهم وحياتهم تجديداً عميقاً في ضوء سر الفداء والخلاص... إن الحوار الصحيح يرمي إذن، بادئ بدء، إلى تجديد كل الناس بالارتداد الباطني والتوبة مع احترام كل الضمائر)[6].
إن نظرة شاملة لمسيرة الكنيسة الكاثوليكية خلال العقود الثلاثة الأخيرة التالية لمقررات المجمع الفاتيكاني الثاني (1962 ـ 1965م) حول قضية الحوار مع الإسلام تكشف عن ثلاث مراحل متميزة:
هذه المرحلة أخطر مراحل الحوار الذي تمارسه الكنيسة الكاثوليكية، حيث تمطر الآخرين بعبارات ذات مدلولٍ فارغ تخدرهم فيها، وتصرف أنظارهم عن الاشتغال بما يهمهم حقاً، في الوقت الذي تستنفد فيه كافة السبل والوسائل للتبشير، والغرس الثقافي طويل الأمد، تحت ستار «الحوار» الطعم.
وبإزاء الكنيسة الكاثوليكية، يمثل مجلس الكنائس العالمي الطوائف النصرانية غير الكاثوليكية، ويتمتع بنفوذٍ واسع يضاهي نفوذ «الفاتيكان»، وتنضوي تحته جميع الكنائس البروتستانتية، والإنجليكانية، والأرثوذكسية، التي يبلغ عددها ثلاثمائة وست عشرة كنيسة موزعة على أكثر من مائة بلد، ويتبعها قرابة أربعمائة مليون نصراني.
لقد لفتت مبادرات مجلس الكنائس العالمي للتقريب بين الأديان الأنظار في أواخر الستينيات، وطوال السبعينيات الميلادية، بتتابعها، وانتشارها في أصقاع متنوعة من قارات العالم القديم. فقد عقد المجلس أكثر من خمسة عشر لقاءً دولياً أو إقليمياً خلال عشر سنوات، موزعة في أوروبا وآسيا وأفريقيا. ولكن هذا النشاط الدائب لم يكن يخفي وراءه وضوحاً في الرؤية، ومضاءً في العزيمة. بل كان سلسلةً من التجارب المشبعة بروح المغامرة، والرصد لانعكاسات التقارب على الحركة المسكونية.
لقد واجه المجلس معضلة العلاقة بين «الحوار» و«البشارة»، وبعبارة أدق: بين «التقارب» و«التنصير»، بصورة أعنف مما واجهته الكنيسة الكاثوليكية.. ويمكن أن نميز ثلاث مراحل:
ومن ثم فقد انحسر عدد المؤتمرات التي يرعاها المجلس بين الأديان بصورة ملحوظة إلى حد إلغاء وحدة الحوار، وإدراجها ضمن إطار العلاقات الدولية للمجلس، فقد استفرغ المجلس وسعه، في السعي لاستغلال الحوار ـ من حيث هو حوار ـ للتنصير، فلم يأت بطائلٍ يرضي طموحه، فاستبقى الاسم ستاراً لمشاريعه، وفرَّغه من المضمون.
أما المرحلة الراهنة فعلمها عند الله، لكن رؤية المنحنى المنحدر يشي بشيءٍ من معالمها الذي سيسفر عن الوجه الكالح للصليبية الجديدة. ولا أدل على ذلك من الاستهزاء العلني الذي تديره الآلة الإعلامية الكبرى في الغرب النصراني ضد قيم الإسلام، ونبيه، وكتابه، ورموزه، كما أبصره الناس في الرسوم المسيئة إلى شخص نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -، وجرى دعمه وإسناده من بعض القوى السياسية والدينية الغربية، أو تجاهله وعدم إدانته من آخرين.
ثم طفح الكيل حين فاه البابا بينديكت السادس عشر، في محاضرة ألقاها في جامعة (ريغبنسبورغ) الألمانية، يوم 12 سبتمبر 2006، بهجومه البذيء على الإسلام ونبيه، في سابقة هي الأولى من نوعها بعد قرارات المجمع الفاتيكاني الثاني، مما يد على أن القوم نفد صبرهم، وشعروا أن الإسلام يتقدم، ويكتسب أفراداً ومواقع جديدة، وأن لعبة (التقارب) لم تعد مجدية، والبساط يطوى من تحتهم، والأرض تنقص عليهم من أطرافها، لا بل في عقر دارهم!
----------------------------------------
[1] المجمع الفاتيكاني الثاني: دساتير، قرارات، بيانات (52).
[2] المجمع الفاتيكاني الثاني (629 ـ 631).
[3] رسالة الفادي: البابا يوحنا بولس الثاني. اللجنة الأسقفية لوسائل الإعلام. جل الديب / لبنان. صدرت في روما 1990م. (90).
[4] عن حوار وبشارة (10).
[5] نقلاً عن: تنصير العالم. (مناقشة لخطاب البابا يوحنا بولس الثاني): د. زينب عبد العزيز. دار الوفاء للطباعة والنشر والتوزيع. المنصورة ـ مصر. الطبعة الأولى (1415هـ = 1995م). (107).
[6] عن المرجع السابق، (109). 1 ـ المرحلة الأولى: وهي التي أعقبت المجمع الفاتيكاني الثاني، الذي قدم المسوغ اللاهوتي للحوار، عن طريق توسيع عقيدة الخلاص، وهجر الدعوى الكنسية القديمة القائلة: «لا خلاص خارج الكنيسة»، والتخفف من لوازم عبارة إنجيل يوحنا القائلة: «أنا الطريق والحق والحياة». 2 ـ المرحلة الثانية: تمثل هذه المرحلة تنامي ردود الفعل المضادة للانفتاح على الديانات والتقاليد الأخرى، واعتبار أسلوب «الحوار» و«التقارب» خيانة لرسالة الكنيسة وتخلياً عن البشارة. هذا من جانب النقد الذاتي داخل الأسرة الكاثوليكية، لكن صاحب ذلك ما يشبه «خيبة الأمل» و«الإحباط» تجاه التجاوب الإسلامي مع دعوة الحوار، فنصارى الحوار فضلاً عن معارضيه، لم يجدوا بغيتهم التي تلبي طموحاتهم في مسلمي الحوار فضلاً عن معارضيه، وهذه المرحلة واكبت السنوات الأولى من سيامة يوحنا بولس الثاني بابا الفاتيكان. 3 ـ المرحلة الثالثة: وهي الفترة الممتدة من أواسط الثمانينيات وحتى وقتنا الراهن. وتتسم باستمرار التأكيد على أهمية الحوار من الناحية الإعلامية والمظهرية، ولكن باعتبار الحوار جسراً لنقل الثقافة الإنجيلية إلى الآخرين، أو ما صار يسمى «بالغرس الثقافي». وهذه المرحلة أعقبت رحلات البابا يوحنا بولس الثاني لأجزاء من العالم الإسلامي، ولقائه بمسلمين في آسيا وأفريقيا وأوربا على مدى أربع سنوات (1980 ـ 1984م). وعاد بلا ريب مقتنعاً بعدم كفاءة أمانة السر الفاتيكانية للعلاقات بغير المسيحيين التي كان يشغلها إذ ذاك رئيس الأساقفة جان جادوت، في تفعيل الحوار الهادف إلى نشر النصرانية، فكان أن عين الكاردينال الأفريقي الأصل فرانسيس آرينزي في ذلك المنصب ليرضي طموحه، وفق النظرة الجديدة للحوار. ومن الملاحظ في هذه الفترة تكثيف النشاط التنصيري، واستخدام كافة وسائل التقنية الحديثة لتنصير العالم ومن أخطرها مشروع Lumen 2000، أي نور سنة 2000م، وهو القمر الصناعي المخصص لبث برامج التنصير عبر القنوات الفضائية: 1 ـ المرحلة الأولى: مرحلة الدراسة، وقد ابتدأت في وقتٍ مبكر إثر انعقاد المجلس عام 1955م، حيث شكل مشروعاً دراسياً بعنوان: «كلمة الله والأديان الحية للبشر»، استمر حتى مطلع السبعينيات. وكانت حصيلته الدعوة إلى الانفتاح والحوار مع الإسلام، ومجاراة ما كان سائداً في النصف الثاني من الستينيات إثر المجمع الفاتيكاني الثاني. وكانت ذروة هذه المرحلة مؤتمر «كارتيني» عام 1969م، الذي رأى ضرورة الحوار لحمل الديانتين على تأمين الاحترام المتبادل وتعزيز التفاهم. وفي ذات العام أنشئت وحدة الحوار. 2 ـ المرحلة الثانية: مرحلة التجربة العملية: وقد استهلت بإصدار الإرشادات لشرح سياسة وحدة الحوار مع معتنقي الأديان والمثل الحية عام 1971م وفيها يوصف الحوار بأنه اضطراري، ومستعجل، ومملؤ بالفرص، ومع ذلك يعترف المجلس أنه لا يوجد لديه رأي موحد، وأن ممارسة المجلس للحوار مغامرة. 3 ـ المرحلة الثالثة: مرحلة حوار البشارة: تبتدئ هذه المرحلة عام 1979م، إثر صدور إرشاداتٍ بشأن الحوار في اجتماع اللجنة العامة للمجلس في جامايكا. فقد عُرِّف الحوار بأنه ليس مجرد نشاط اجتماعات ومؤتمرات بل أسلوب حياة للإيمان النصراني، مرتبط بالجيران، يؤدي فيها المحاور الشهادة، ويتذرع بجميع الوسائل الحديثة للوصول إلى مستمعيه.