مقدمة
مع كل ما سبق عرضه، إلا أننا نجد المغرضين لا يعجبهم ذلك، فقد أكثرت طوائفهم، وفرقهم، من شيعة، وعلمانية، ومستشرقين، من وضع الشبهات، وأكثروا من الطعن في كل رموز الإسلام، في أبي بكر، في عمر، في علي، في عائشة، في سعد بن عبادة، وفي غيرهم ولعلنا نضع هنا سؤال:
- إذا لم يكن الصديق رضي الله عنه فمن غيره يكون خليفة؟!
وهذا ليس مجرد عصف ذهني، أو مجرد طرح نظري لأسماء أخرى، ولكن هذا السؤال؛ لأن هناك طوائف مختلفة من المشككين في خلافة الصديق رضي الله عنه طرحت أسماء أخرى؛ للطعن في خلافة الصديق رضي الله عنه، ولتشويه الصورة الجميلة للجيل الأول، ولأهداف أخرى كثيرة، كثير من المستشرقين فعل ذلك، وسار على نهجهم بعض المستغربين من أبناء المسلمين، وكثير من طوائف الشيعة أيضًا فعلت ذلك، ولم يطعنوا في خلافة الصديق رضي الله عنه فقط، بل في خلافة عمر وعثمان أيضًا رضي الله عنهم أجمعين.
وتكاد تنحصر الأسماء المرشحة في شخصين:
الأول: هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه، والثاني: هو سعد بن عبادة رضي الله عنه زعيم الخزرج والأنصار.
أما سعد بن عبادة فقد تحدثنا عن تفصيلات موقفه، ولماذا كان مرشحًا للخلافة؟ وكيف نزل الأنصار عن رأيهم بترشيحه؟ والعدول بعد ذلك إلى ترشيح أبي بكر الصديق رضي الله عنه؟ وكيف بايعوا جميعًا بما فيهم سعد بن عبادة رضي الله عنه؟
وأما عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فلم يطرح اسمه حقيقة من أحد، اللهم إلا من أبي بكر الصديق نفسه يوم السقيفة، لما رشحه للخلافة وقال:
أنت أقوى مني.
فقال عمر:
قوتي مع فضلك.
والجميع يعلم أن أبا بكر مقدم على عمر، وعمر نفسه كان يقول:
والله لئن أقدم فتضرب عنقي، لا يقربني ذلك من إثم، أحب إلى علي من أن أتأمر على قوم فيهم أبو بكر.
كما أن الشدة المعروفة عند عمر رضي الله عنه لم تكن مناسبة للأمة، وهي خارجة من المصيبة الكبيرة بوفاة الرسول صلى الله عليه وسلم.
شبهة أحقية علي بن أبي طالب رضي الله عنه بالخلافة
إذن يبقى اسم واحد محل كلام ونقاش وجدال، وهو البطل الإسلامي العظيم علي بن أبي طالب رضي الله عنه، هذا الصحابي الجليل رضي الله عنه، أشاع كثير من الشيعة أنه كان أحق بالخلافة من أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وأعجبت الفكرة كثير من المستشرقين، فذكروها في كتبهم على أساس أن الخلافة حق منهوب من علي بن أبي طالب، بل إن بعض الشيعة المتطرفة تجاوزت الحدود في علي بن أبي طالب، وادعت أنه كان أولى بالرسالة من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولهم في ذلك تخاريف عظيمة، بل إن طائفة أخرى تجاوزت هذا الأمر إلى تأليه علي بن أبي طالب رضي الله عنه، تعالى الله عما يصفون، هذا الغلو في علي بن أبي طالب رضي الله عنه ظهر في أواخر أيام عثمان بن عفان رضي الله عنه، في بدايات الفتنة واتساع رقعة الإسلام، ودخول الكثير من المغرضين في دين الله، ومحاولتهم هدم الإسلام من جذوره وأصوله، دخل في دين الله كثير من اليهود والمجوس الذين أرادوا أن يقسموا الدولة الإسلامية إلى طائفتين متنافرتين من جهة، وأن يطعنوا في رموز الصحابة من جهة أخرى، وقد يكون عبد الله بن سبأ اليهودي هو أول من أشاع بين الناس فكرة التشيع لعلي بن أبي طالب، وإنه أولى بالخلافة من عثمان بن عفان، بل ومن أبي بكر وعمر رضي الله عنهم أجمعين، وكان لعبد الله بن سبأ أعوان من قبائل شتى، كلها تنقم على الإسلام لأسباب مختلفة، وكثير منهم من أرض فارس حيث الأقوام الذين أكل الحقد قلوبهم، لانهيار دولتهم على أيدي المسلمين بقيادة أبي بكر، ثم عمر رضي الله عنهما.
وما زالت إلى الآن هذه المغالاة في علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وأكثر طوائف الشيعة اعتدالًا ترى شرعية خلافة الصديق، وعمر على سبيل جواز إمامة المفضول للفاضل، أي أنهم يزعمون أن علي بن أبي طالب أفضل من أبي بكر وعمر وعثمان، لكن يجوز أن يتولى الخلافة الأقل فضلًا، هذا الفكر المتشيع لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه لا يقتصر فقط على طوائف الشيعة، بل كما ذكرنا أعجبت الفكرة المستشرقين، فذكروها في كتبهم، وأفردوا لها البحوث، والتحليلات، وانتقل هذا الفكر إلى طائفة من المسلمين المحسوبين على أهل السنة، والمتعلمين على أيدي هؤلاء الغربيين، والله لقد قرأت في هذا الموضوع كتابات يقشعر منها البدن، ويكاد المرء يصاب بالغثيان من أولئك الذين يطعنون في صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه الصورة، وما زال هذا الفكر يدرس إلى الآن في جامعات إسلامية وغربية كثيرة.
وسؤال هام قد يطرأ على الذهن:
لماذا اختار عبد الله بن سبأ اليهودي، أو غيره ممن ابتدع هذه الفكرة، لماذا اختاروا اسم علي بن أبي طالب رضي الله عنه ليدعوا أنه كان أحق بالخلافة؟
لماذا لم يختاروا أي صحابي جليل آخر، وما أكثر الصحابة؟
لقد فكر هؤلاء في أنه لكي يقتنع الناس بشخصية أخرى غير الصديق رضي الله عنه، وعمر، وعثمان رضي الله عنهما لا بد أن يأتوا باسم تهفو له نفوس المسلمين بصفة عامة، ويشعرون بعاطفة كبيرة نحوه، ونفوس المسلمين قد تهفو إلى كل الصحابة، إلا أن علي رضي الله عنه يتميز عنهم بأمرين هامين جعلا المغرضين يختارونه لهذا الأمر، أما الأول:
فهو لقرابته رضي الله عنه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو ابن عمه ومن بني هاشم وأقرب إلى الرسول من أبي بكر وعمر وعثمان.
وأما الثاني فهو أنه زوج ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو أحفاده الحسن والحسين رضي الله عنهما أولاد السيدة فاطمة رضي الله عنها، وليس هذا لأحد غيره، نعم تزوج عثمان بن عفان رضي الله عنه ابنتين لرسول الله صلى الله عليه وسلم، لكنه لم يكن له أولاد من السيدة رقية والسيدة أم كلثوم يحملون نسل الرسول صلى الله عليه وسلم.
لهذين السببين اختاروا على بن أبي طالب كي يستغلوا اسمه في تفريق المسلمين إلى طائفتين شيعة، وسنة وما زال هذا التقسيم إلى الآن موجودًا.
وقبل أن نرد على هذين الأمرين فإننا نريد أن نقول أننا لا يجب أن يدفعنا حبنا للصديق رضي الله عنه، ورفضنا لفكرة الإشاعة بأن علي بن أبي طالب كان أحق بالخلافة من الصديق رضي الله عنه، لا يجب أن يدفعنا هذا الأمر إلى التقليل من شأن الصحابي الجليل العظيم على بن أبي طالب رضي الله عنه، فله من المناقب والآثار ما نعجز عن وصفه في مجلدات ومجلدات، وهو أول من أسلم من الصبيان، وله مواقف مشهورة في تاريخ الإسلام، وفي الهجرة، وفي كل الغزوات، وكان مقربًا لقلب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وله مواقف عظيمة حتى بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم في خلافة الصديق، وعمر، وعثمان رضي الله عنهم، ثم في خلافته هو رضي الله عنه، وفي الجملة فهو من أفضل الصحابة على الإطلاق، بل يجزم كثير من العلماء المسلمين أنه رابعهم في الفضل بعد الصديق أبي بكر، وعمر الفاروق، وذي النورين عثمان رضي الله عنهم جميعًا، إذا وضعنا هذه الخلفية في عقولنا، فإننا نكون في مأمن من التقليل من حجم شخصيته، وهذا هو عين الصواب في التعامل مع جيل الصحابة بأكمله، رضي الله عنهم أجمعين.
ونعود إلى الأمرين اللذين تميز بهما علي بن أبي طالب رضي الله عنه على غيره من الصحابة، وهما قرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وزواجه من ابنته فاطمة رضي الله عنها.
أما الأمر الأول: قرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم:
فهل تكفي القرابة لتقديم شخص على آخر؟
وهل تاريخ الرسول صلى الله عليه وسلم يشير من قريب، أو بعيد في جعل هذا الأمر لقرابته؟
ألم يقل صلى الله عليه وسلم:
الْأَئِمَّةُ فِي قُرَيْشٍ.
ولو أراد لقال الأئمة في بني هاشم، لكنه لم يرد ذلك، دعوة الإسلام ليست دعوة قبلية، ولو أخذها علي بن أبي طالب لكان ذلك دليلًا على القبلية لا يقاوم، ومنذ متى تنفع القرابة أو تجدي، حتى وإن كانت قرابة الرسول صلى الله عليه وسلم؟
بل ألم نشاهد أبا طالب العم القريب إلى قلب الرسول صلى الله عليه وسلم يظل كافرًا حتى آخر لحظة من حياته فيدخل النار، كما أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
وهل كانت العقليات والكفاءات في عائلة رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلى وأكبر من العقليات والكفاءات خارجها؟
لقد حاول رسول الله صلى الله عليه وسلم طيلة حياته أن يرسخ في أذهان الأمة أن المرء بعمله لا بنسبه، فلو أخذها رجل من بني هاشم مع وجود من هو أعلى منه كفاءة وأعظم فضلًا أكان ذلك يرضيه صلى الله عليه وسلم؟
هذا كله ولا شك لا يقلل من فضل علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ولكن ولا شك أن الخلفاء الثلاثة الأوائل قد فاقوه في الفضل بإجماع الأمة وقتها وبعد ذلك، ولم يكن للقرابة أن تغير من هذا الفضل أبدًا.
ثم هل كان يتقدم علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وهو لم يتجاوز الثلاثين من عمره إلا بقليل على الأشياخ الكبار بالنسبة له كأبي بكر وعمر وعثمان؟ علي بن أبي طالب رضي الله عنه كان يبلغ من العمر وقت وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم حوالي 31 سنة بينما كان الصديق رضي الله عنه في الواحدة والستين من عمره، نعم تولى قيادة بعض الجيوش الإسلامية شباب كثير، لكن قيادة الجيوش شيء وقيادة الأمة شيء آخر، ولا شك أن الخبرات المتراكمة لرجل مثل الصديق رضي الله عنه كانت نفعًا للأمة، والأمة لم تخسر طاقات الشباب، فالصديق الإمام يوجه، وينظم، ويخطط، والجميع في الأمة ينفذ.
والأمر الثاني: هو زواج عليّ من فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم، أكان ذلك الأمر يؤهله للخلافة؟
إذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يغني عن فاطمة نفسها رضي الله عنها شيئًا، ولا تنجو إلا إذا عملت، أفيغني رسول الله صلى الله عليه وسلم عن زوج ابنته إلا إذا عمل؟
- روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:
قام رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزل الله عز وجل:
[وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ] {الشعراء:214} قال:
يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ- أو كلمة نحوها- اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ لَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، يَا عَبَّاسَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ لَا أُغْنِي عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، وَيَا صَفِيَّةَ عَمَّةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، وَيَا فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍٍ، سَلِينِي مَا شِئْتِ مِنْ مِالِي لَا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا.
وهكذا فإن الرسول صلى الله عليه وسلم وضح أن هذه العلاقات لا تقدم ولا تؤخر في فضل المؤمنين، وإن التفاضل بين الناس لا يكون إلا بالتقوى والعمل الصالح، والكفاءة، وغير ذلك من الأمور المكتسبة، ولا يتفاضل الناس بحسب الأشياء التي لا دخل لهم فيها، كالنسب، واللون، والجنس، والحالة المادية، وغير ذلك من أمور التفاضل.
ولعل هذا هو الحكمة أو جزء من الحكمة التي من أجلها لم يعش لرسول الله صلى الله عليه وسلم أولاد من الذكور، فإذا كان الناس تشيعوا هكذا لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، واستخلفوه للتفريق بين المسلمين، فماذا كان يفعل المسلمون مع ابن الرسول صلى الله عليه وسلم لو عاش، لا شك أن طائفة الشيعة هذه كانت ستجد فيه، وفي ذريته ذريعة للاتباع، وتفريق المسلمين تحت قيادات مختلفة.
ولا شك أن الذين أشاعوا هذه القضية كانوا يعلمون أن حجتهم ليست بالقوية، فهم يطلبون خلافة لعي بن أبي طالب رضي الله عنه على أساس القبلية والقرابة، وهي مؤهلات غير مقبولة في الشرع الإسلامي، فماذا يفعلون حتى يثبتوا خلافة في غير موضعها؟ لقد بحثوا عن مصداقية أخرى لهذا الأمر فوجدوها.
قضية ميراث الرسول صلى الله عليه وسلم
والقضية لها علاقة وثيقة بقصة استخلاف أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فهي من أول أعماله في الخلافة رضي الله عنه، ونتج عنها بعض المواقف التي أساء المستشرقون، وأصحابهم فهمها، واستغلوها في الطعن في عظماء الصحابة، لقد ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم أرضًا، كانت له بالمدينة وفدك (قرية خارج المدينة)، وما بقي من خمس خيبر، وبعد وفاته صلى الله عليه وسلم ذهب العباس وعلي رضي الله عنهما يطلبان نصيب العباس ونصيب فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في إرث رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الصديق رضي الله عنه لهما كما جاء في البخاري: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ا نُورَثُ، مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ.
ثم قال الصديق رضي الله عنه: إنما يأكل آل محمد صلى الله عليه وسلم في هذا المال، وإني والله لا أغير شيئًا من صدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حالها التي كان عليها في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولأعملن فيها بما عمل به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال أيضًا في رواية أخرى للبخاري:
لست تاركًا شيئًا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعمل به، إلا عملت به، فإني أخشى إن تركت شيئًا من أمره أن أزيغ.
يا لها من كلمة جميلة من الصديق رضي الله عنه، كلمة رائعة، هي تلخص فلسفة الصديق رضي الله عنه في حياته:
إني أخشى إن تركت شيئًا من أمره أن أزيغ.
اللهم ارزقنا فهمًا كهذا الفهم، وعملًا كهذا العمل، وإخلاصًا كهذا الإخلاص.
إذن أبو بكر الصديق عرّف عليا والعباس رضي الله عنهما بحكم هام، وهو أن الأنبياء لا يورثون درهمًا ولا دينارًا، وما تركوه فهو صدقة، أي في بيت مال المسلمين، قد شاء الله عز وجل ذلك حتى لا يكون ذلك شبهة لمن يقدح في نبوتهم، بأنهم طلبوا الدنيا وورثوها لورثتهم، ولذا فحياة الأنبياء صلوات الله عليهم وتسليماته، تكون زهدًا وورعًا وبعدًا عن الدنيا، وكذلك يكون الحال لورثتهم.
لكن هل كان هذا الحكم خافيًا على علي بن أبي طالب رضي الله عنه؟
أبدًا لم يكن خافيًا عليه هذا الحكم، سبحان الله، بل لم يكن خافيًا على العباس رضي الله عنه أيضًا، ولم يكن خافيًا عن كثير من الصحابة، فقد روي نفس الحديث من طريق أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وطلحة، والزبير، وسعد، وعبد الرحمن بن عوف، والعباس، والسيدة عائشة، وأبي هريرة، فما تفسير طلب العباس وعلي رضي الله عنهما للإرث؟!
وما تفسير سؤال السيدة فاطمة رضي الله عنها نصيبها في ميراث أبيها صلى الله عليه وسلم؟!
بل أكثر من ذلك، فإنه لما رفض أبو بكر الصديق إعطاء العباس وعلي رضي الله عنهما من الإرث، تشهد علي رضي الله عنه، وحمد الله ثم قال: إنا نعرف يا أبا بكر فضيلتك، ثم ذكر عليّ قرابتهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم وحقهم، أي أنه ما زال يطلب الإرث لزوجته، فقال أبو بكر رضي الله عنه:
والذي نفسي بيده، لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إلى أن أصل من قرابتي.
أي إنه لا يقطع قرابة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكنه يقضي بما يراه صوابا، فما تفسير تكرار الطلب من علي رضي الله عنه مع علمه بالحكم؟!
بل أكثر من ذلك، فإنه لما رفض أبو بكر الأمر وجدت السيدة فاطمة رضي الله عنها أي حزنت، وغضبت، وذلك كما جاء في رواية البخاري، وهجرت الصديق رضي الله عنه، فلم تكلمه حتى مرضها الأخير الذي ماتت فيه بعد ستة شهور من وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، فما تفسير غضبها وهجرانها لأبي بكر الصديق رضي الله عنه؟!
طبعًا المستشرقون والمستغربون والشيعة وجدوا في هذا الموقف مادة ثرية جدًا للطعن في كل الصحابة، فمنهم من اتهم أبا بكر الصديق رضي الله عنه بالظلم، لأنه حرم السيدة فاطمة من نصيبا من الإرث، ومنهم من اتهم السيدة فاطمة وعلي والعباس بحب الدنيا والسعي وراءها، وبمخالفة الشرع بطلب شيء نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنهم من اتهم علي بن أبي طالب بأنه لم يبايع أبا بكر غضبًا لنفسه ولزوجته، ومنهم من اتهم الصحابة بالخلاف على الدنيا والهجران لذلك، فما هو التفسير الحقيقي، والمقبول لهذه المواقف المتشابكة؟
الحق أنه من المستحيل لعلي والعباس والسيدة فاطمة رضي الله عنهم أجمعين أن يطلبوا الدنيا بهذه الصورة مخالفين الشرع ومخالفين أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، وبالذات أن السيدة فاطمة تعلم يقينًا أنها أول من سيلحق بأبيها صلى الله عليه وسلم من أهل بيته، هي تعلم أنها قد اقتربت جدًا من الوفاة وليس من المعقول أن تتعلق بالدنيا إلى درجة المخالفة بهذه الصورة،
وللحديث بقية